الأربعاء، 9 مارس 2011

جمال لن يكتمل 2

يعربد التعب مزهوّا بتحطيم تركيزك برويّة وتلذذ . وتخور قواك تحت وطأة تدافع المرضى إلى قسم الإسعاف وامتداد مناوبتك إلى أربع وعشرين ساعة لا تعرف خلالها إلا القليل من الراحة والسكون .هذا شأننا في أيام العطل من كل أسبوع .
بينما تتغلغل كل تلك الأحاسيس في أعماق تفكيري وتنهش بقايا صبري وتمترسي خلف عنفوان شبابي .
 دخلت فتاة تسير بسكون واستسلام , يلفهما رداء من الخوف والقلق . تضغط بيدها  شاشة خضبها الدم على خدها الأيمن , جلست بصمت على سرير الكشف .
تقدم أخوها طالبا مني الاهتمام بالجرح الذي اصاب خدها الأيمن والقيام بما يلزم .
عينان مشعتان لهما بريق أخاذ , ينبجس من بؤبؤهما وميض مشبع بالأدب والذكاء والجمال .
تجسد هواء ريفنا النقي حمرة زاهية على خديها اللامعين . وزادها حياؤها وسكونها ورقة كلامها جمالا وسحرا .
طلبت منها رفع قطعة الشاش من على خدها , رمقتني بنظرة مزق الحزن أشعتها فتهاوت على جدران روحي تأن بوهن .
جرح قاطع غائر ينهش براءة خدها ونعومة بشرته بقسوة وشبق . يمتد على طول خدها ويكاد يفلقه إلى نصفين .
لم تنبس ببنت شفة , بل علت ابتسامة محملة بالانكسار المغلف بالكبرياء شفتيها .
حين سألتها ما سبب هذا الجرح . صمتت ثم قالت :
-         وقعت على حافة الدرج يا دكتور .
هبت ريح كذبة بريئة محملة بغبار من سذاجة لا تنتمي لشخصها .
كان جليّا لي من شكل الجرح ونوعيته أنه جرح ناجم عن شئ قاطع قد يكون سكينا أو قطعة زجاج أو ما شابه .
صعدت بها إلى غرفة العمليات لأخيط الجرح في ظروف عقيمة وبهدوء وروية علّي أستطيع إصلاح ما يمكن والحفاظ على شكل خدها ولو ان ذلك كان مستحيلا .
كم هي صلفة تصاريف القدر , لا ترحم الجمال , ولا تؤثر في أحكامها نداءات الشباب وصيحات المظلومين . تعصف بقسوة وجموح لتقتلع جدران السعادة والسكون المتينتين وتذرو رمادهما على بقايا حلم لتدفنه في مقبرة اليأس .

-         من فعل ذلك بك . سألتها
-         لا أحد يا دكتور وقعت فحسب .
تلعثمت وتجلى الكذب ماردا من بين كلماتها .
طمأنتها بأني لن أقول لأحد ولكن ينبغي معرفة الفاعل ونوعية الأداة لتحديد طبيعة الجرح ونوعية وكم الجراثيم التي تدافعت بنهم إلى أحضان الجرح .
-         أخي الواقف في الخارج هو من فعل ذلك بي .
كان يقف خارجا ببرود وثقة عجيبين , مبديا اهتماما تعرى حجم تصنعه أمام الحقيقة التي عرفتها .
-         عرف من زوجته أني حصلت على خمسة آلاف ليرة بعد بيعي لأحد مصوغاتي الذهبية , طلب مني المبلغ متذرعا بحاجته لسداد دين لا يحتمل التأجيل , وحين تلكأت في الجواب ثارت ثائرته وقذفني بكأس أصاب خدي بعد أن تكسر على رأسي . تصور يا دكتور لم يثنه بركان الدماء الثائر من وجهي وأصر في طلبه , ذهبت وأعطيته المبلغ . انقلب في ثوان إلى أخ حنون تغطي سحب العطف والطيبة سماء روحه . أرجوك يا دكتور لا تقل شيئا يمكن أن يضر بأخي .
كاد الجنون يفيض ليفتك ببقايا عقلي , ما هذه المخلوقة ؟! ومن أين لها بكل هذه القوة لتسامح بل وتقلق على أخيها الذي سيترك آثار قسوته وجشعه وأنانيته خالدة على تضاريس وجهها التي لن تعود ناعمة كالحرير.
كيف يمكن لقلب تمرغ في أوحال القذارة البشرية مرغما صاغرا أن ينتفض ليعود ناصعا طاهرا ويمنح جلاديه نياط الحب ؟؟
ابتلعت أشواك الغضب لتمزق أحشائي , وسحقت جبال الألم الرابضة في حنايا قلبي.
أنهيت خياطة الجرح متخيلا تلك الندبة التي سترتسم على خدها لتذكرها بقسوة القدر . لتحرث أرض ذكرياتها كلّما تأملت وجهها البريء في مرايا غرفتها , ويتجلى برعم الانكسار الذي سقاه أعزّ الناس إلى قلبها .
قالت لي : شكرا .
وانثال من عينيها الطيبتين شلال من العتب الحارق . عتب على الزمن , ولوم للمكان , واستجداء لحقوق قتلتها الأنا الذكورية الجاحدة لكل أعطيات وتضحيات النساء في أرضنا التي كانت تلفها غلالة من بساطة وصدق وطيبة .
وقف في الممر حين عبرت مزهوا بذكورة غادرت روحه منذ زمن لتبقى حاضرة في جسد محمل بالخطايا .
قبلت رأسه بصمت وحنان , احتضنها , ذهبا إلى ذات القدر .

الثلاثاء، 7 ديسمبر 2010

ومضات من ذاكرة طبيب

جمال لن يكتمل

صباح هاديء على غير المعتاد في مستشفانا الذي لا ينقطع ضجيج المرضى عن التردد بين جنباته .
جلست والزملاء نستمتع بانعكاس أشعة الشمس على وجوهنا , باثة هالة من الدفء أنستنا انعدام التدفئة لدقائق قليلة جميلة , قبل أن يقطّع جمال اللحظة إعلان النفير استعدادا لاستقبال حادث سير مروري كبير , وتوقع قدوم الكثير من الضحايا بين متوّف وجريح .
تحوّلت صالة الإسعاف في غضون دقائق إلى ما يشبه خلية النحل , الحماس والترقب يكادان يتفجران من عيون أفراد الطاقم الطبّي .
هبّت ريح دموية تنبئ عن عاصفة من الجروح والإصابات الخطيرة .
فاض سيل بشري في ثوان معدودة , وانهمر المرضى المكلومون المصدومون بحادث سير مروع باغتهم دون انذار أو مقدمات .
دماء تنزف , آهات من كل صوب , دموع المرافقين تذرف بكرم ووجل , عيون تغشاها الحيرة واللا وعي ..
أسرع كل طبيب يبادر لعلاج احد المرضى , ووجدت نفسي أمام فتاة ملقاة على النقالة الإسعافية , تأن بصمت , ويتردد بين مؤقتيها آلاف الأسئلة والقليل من الوعي .
رغم الدماء التي غطت ثيابها ووجهها , والتراب الذي انتثر بنزق على محياها , أبى جمال وجهها إلا أن يشع كبدر في ليلة حزينة يائسة .
لم أر في حياتي كلها نظرة كتلك النظرة الفاتنة , ووجها بهذا الجمال, ملامحه مرسومة بإتقان وتناسق عجيبين .
بدأت في تفحص موضع إصاباتها لإجراء اللازم ومعرفة الخطير منها . قاطعتني بصوت هادئ جميل رخيم رغم الألم وقالت :
-         قدمي اليمنى يا دكتور لا أشعر بها .
نظرت إلى قدمها اليمنى هزني ما رأيت وارتجف قلبي كمدا . لم أستطع إخفاء ردة فعلي وخذلتني عيناي رغم رباطة جأشي في مواقف كهذه .
نظرت إلى نظرة مطولة , لم تقل شيئا وكأنها أيقنت أن ما أصابها مصاب جلل. صمتت و نظرت باتجاه النافذة .
كانت قدمها ممزقة تماما , التهتك بلغ الأنسجة , اتضح لي من النظرة الأولى أنه لا مناص من بتر قدمها . جالت في خاطري لحظتها الكثير من الأفكار في آن واحد. حزن على جمال بديع لن يكتمل وسيعيش ناقصا , ألم على قلب قد لا يعرف السعادة بعد اليوم , وأكثر ما شغلني كيف سيتم إبلاغها بخبر كهذا .
طلبت منها الانتظار قليلا ريثما أبلغ طبيب العظام المختص كي يتابع حالتها .
هممت بالانصراف مسرعا , ردني صوتها الرخيم المتشح بحزن دفين
-         هل ستقطعون قدمي ؟
نحرتني بسيف سؤالها الذي كدت أتهرب من نصله .
التفت إليها متحاشيا النظر في عينيها , عل الكذب الأبيض الطبي في حالات كهذه يسعفني لأخدرها قليلا .
-         أنظر إلي لو سمحت .
قالتها بهدوء ساحر .
خطفتني نظرتها وألقت بقلبي في غياهب الحزن وبحر الألم . يالقسوة القدر وسطوته . تخيلت كم الفرح الذي سال من روحها وارتوت منه عينياها , تراقصت أحلامها الجميلة على مسرح روحي رقصة الوداع , ماتت الفرحة وتلاشت الأحلام .
أعرف كم هو قاس ومدمر فقدك لجزء من جسدك . فلكم تابعت وعرفت حالات لمرضى لم يستطيعوا التعايش مع هذا النقص المقيت .
-         إنشاء الله ستمشين عليها قريبا .
كاذب . ذلك الانطباع الذي خرجت به عن نفسي فكيف بها؟ . خانتني أنفاسي فتهدهد صوتي وفاحت رائحة الكذب من بين ارتجافاته .
-         شكرا دكتور .
قالتها مبتسمة ابتسامة الخنوع والاستسلام .
ابتعدت مسرعا بحثا عن طبيب العظام ليتابع المهمة التي أعيت روحي .
قطعوا قدمها فيما بعد . وانقطع الألم مع الابتسامة عن زيارة روحها . هكذا هي الحياة تعطي لتأخذ , تقبل لتبتعد , تضحك لنا لتضحك علينا , تَبكينا لتُبكينا .
ونحن نغرق في مستنقع الظنون وتغمرنا الأماني , حتى نخال الأيام مطيّة نسوقها حيثما وأنى نشاء , وسرعان ما تلقينا على ناصية الألم عراة بلا أمل.

د. باسم الحاج
الرياض
7 -12-2010م