جمال لن يكتمل
صباح هاديء على غير المعتاد في مستشفانا الذي لا ينقطع ضجيج المرضى عن التردد بين جنباته .
جلست والزملاء نستمتع بانعكاس أشعة الشمس على وجوهنا , باثة هالة من الدفء أنستنا انعدام التدفئة لدقائق قليلة جميلة , قبل أن يقطّع جمال اللحظة إعلان النفير استعدادا لاستقبال حادث سير مروري كبير , وتوقع قدوم الكثير من الضحايا بين متوّف وجريح .
تحوّلت صالة الإسعاف في غضون دقائق إلى ما يشبه خلية النحل , الحماس والترقب يكادان يتفجران من عيون أفراد الطاقم الطبّي .
هبّت ريح دموية تنبئ عن عاصفة من الجروح والإصابات الخطيرة .
فاض سيل بشري في ثوان معدودة , وانهمر المرضى المكلومون المصدومون بحادث سير مروع باغتهم دون انذار أو مقدمات .
دماء تنزف , آهات من كل صوب , دموع المرافقين تذرف بكرم ووجل , عيون تغشاها الحيرة واللا وعي ..
أسرع كل طبيب يبادر لعلاج احد المرضى , ووجدت نفسي أمام فتاة ملقاة على النقالة الإسعافية , تأن بصمت , ويتردد بين مؤقتيها آلاف الأسئلة والقليل من الوعي .
رغم الدماء التي غطت ثيابها ووجهها , والتراب الذي انتثر بنزق على محياها , أبى جمال وجهها إلا أن يشع كبدر في ليلة حزينة يائسة .
لم أر في حياتي كلها نظرة كتلك النظرة الفاتنة , ووجها بهذا الجمال, ملامحه مرسومة بإتقان وتناسق عجيبين .
بدأت في تفحص موضع إصاباتها لإجراء اللازم ومعرفة الخطير منها . قاطعتني بصوت هادئ جميل رخيم رغم الألم وقالت :
- قدمي اليمنى يا دكتور لا أشعر بها .
نظرت إلى قدمها اليمنى هزني ما رأيت وارتجف قلبي كمدا . لم أستطع إخفاء ردة فعلي وخذلتني عيناي رغم رباطة جأشي في مواقف كهذه .
نظرت إلى نظرة مطولة , لم تقل شيئا وكأنها أيقنت أن ما أصابها مصاب جلل. صمتت و نظرت باتجاه النافذة .
كانت قدمها ممزقة تماما , التهتك بلغ الأنسجة , اتضح لي من النظرة الأولى أنه لا مناص من بتر قدمها . جالت في خاطري لحظتها الكثير من الأفكار في آن واحد. حزن على جمال بديع لن يكتمل وسيعيش ناقصا , ألم على قلب قد لا يعرف السعادة بعد اليوم , وأكثر ما شغلني كيف سيتم إبلاغها بخبر كهذا .
طلبت منها الانتظار قليلا ريثما أبلغ طبيب العظام المختص كي يتابع حالتها .
هممت بالانصراف مسرعا , ردني صوتها الرخيم المتشح بحزن دفين
- هل ستقطعون قدمي ؟
نحرتني بسيف سؤالها الذي كدت أتهرب من نصله .
التفت إليها متحاشيا النظر في عينيها , عل الكذب الأبيض الطبي في حالات كهذه يسعفني لأخدرها قليلا .
- أنظر إلي لو سمحت .
قالتها بهدوء ساحر .
خطفتني نظرتها وألقت بقلبي في غياهب الحزن وبحر الألم . يالقسوة القدر وسطوته . تخيلت كم الفرح الذي سال من روحها وارتوت منه عينياها , تراقصت أحلامها الجميلة على مسرح روحي رقصة الوداع , ماتت الفرحة وتلاشت الأحلام .
أعرف كم هو قاس ومدمر فقدك لجزء من جسدك . فلكم تابعت وعرفت حالات لمرضى لم يستطيعوا التعايش مع هذا النقص المقيت .
- إنشاء الله ستمشين عليها قريبا .
كاذب . ذلك الانطباع الذي خرجت به عن نفسي فكيف بها؟ . خانتني أنفاسي فتهدهد صوتي وفاحت رائحة الكذب من بين ارتجافاته .
- شكرا دكتور .
قالتها مبتسمة ابتسامة الخنوع والاستسلام .
ابتعدت مسرعا بحثا عن طبيب العظام ليتابع المهمة التي أعيت روحي .
قطعوا قدمها فيما بعد . وانقطع الألم مع الابتسامة عن زيارة روحها . هكذا هي الحياة تعطي لتأخذ , تقبل لتبتعد , تضحك لنا لتضحك علينا , تَبكينا لتُبكينا .
ونحن نغرق في مستنقع الظنون وتغمرنا الأماني , حتى نخال الأيام مطيّة نسوقها حيثما وأنى نشاء , وسرعان ما تلقينا على ناصية الألم عراة بلا أمل.
د. باسم الحاج
الرياض
7 -12-2010م
افضل شركة تنظيف منازل بالرياض شركة مكافحة النمل الابيض بالرياض افضل شركة مكافحة النمل الابيض بالرياض شركة تنظيف بالرياض افضل شركة تنظيف بالرياض شركة نقل اثاث بالرياض افضل شركة نقل اثاث بالرياض
ردحذف