الثلاثاء، 7 ديسمبر 2010

ومضات من ذاكرة طبيب

جمال لن يكتمل

صباح هاديء على غير المعتاد في مستشفانا الذي لا ينقطع ضجيج المرضى عن التردد بين جنباته .
جلست والزملاء نستمتع بانعكاس أشعة الشمس على وجوهنا , باثة هالة من الدفء أنستنا انعدام التدفئة لدقائق قليلة جميلة , قبل أن يقطّع جمال اللحظة إعلان النفير استعدادا لاستقبال حادث سير مروري كبير , وتوقع قدوم الكثير من الضحايا بين متوّف وجريح .
تحوّلت صالة الإسعاف في غضون دقائق إلى ما يشبه خلية النحل , الحماس والترقب يكادان يتفجران من عيون أفراد الطاقم الطبّي .
هبّت ريح دموية تنبئ عن عاصفة من الجروح والإصابات الخطيرة .
فاض سيل بشري في ثوان معدودة , وانهمر المرضى المكلومون المصدومون بحادث سير مروع باغتهم دون انذار أو مقدمات .
دماء تنزف , آهات من كل صوب , دموع المرافقين تذرف بكرم ووجل , عيون تغشاها الحيرة واللا وعي ..
أسرع كل طبيب يبادر لعلاج احد المرضى , ووجدت نفسي أمام فتاة ملقاة على النقالة الإسعافية , تأن بصمت , ويتردد بين مؤقتيها آلاف الأسئلة والقليل من الوعي .
رغم الدماء التي غطت ثيابها ووجهها , والتراب الذي انتثر بنزق على محياها , أبى جمال وجهها إلا أن يشع كبدر في ليلة حزينة يائسة .
لم أر في حياتي كلها نظرة كتلك النظرة الفاتنة , ووجها بهذا الجمال, ملامحه مرسومة بإتقان وتناسق عجيبين .
بدأت في تفحص موضع إصاباتها لإجراء اللازم ومعرفة الخطير منها . قاطعتني بصوت هادئ جميل رخيم رغم الألم وقالت :
-         قدمي اليمنى يا دكتور لا أشعر بها .
نظرت إلى قدمها اليمنى هزني ما رأيت وارتجف قلبي كمدا . لم أستطع إخفاء ردة فعلي وخذلتني عيناي رغم رباطة جأشي في مواقف كهذه .
نظرت إلى نظرة مطولة , لم تقل شيئا وكأنها أيقنت أن ما أصابها مصاب جلل. صمتت و نظرت باتجاه النافذة .
كانت قدمها ممزقة تماما , التهتك بلغ الأنسجة , اتضح لي من النظرة الأولى أنه لا مناص من بتر قدمها . جالت في خاطري لحظتها الكثير من الأفكار في آن واحد. حزن على جمال بديع لن يكتمل وسيعيش ناقصا , ألم على قلب قد لا يعرف السعادة بعد اليوم , وأكثر ما شغلني كيف سيتم إبلاغها بخبر كهذا .
طلبت منها الانتظار قليلا ريثما أبلغ طبيب العظام المختص كي يتابع حالتها .
هممت بالانصراف مسرعا , ردني صوتها الرخيم المتشح بحزن دفين
-         هل ستقطعون قدمي ؟
نحرتني بسيف سؤالها الذي كدت أتهرب من نصله .
التفت إليها متحاشيا النظر في عينيها , عل الكذب الأبيض الطبي في حالات كهذه يسعفني لأخدرها قليلا .
-         أنظر إلي لو سمحت .
قالتها بهدوء ساحر .
خطفتني نظرتها وألقت بقلبي في غياهب الحزن وبحر الألم . يالقسوة القدر وسطوته . تخيلت كم الفرح الذي سال من روحها وارتوت منه عينياها , تراقصت أحلامها الجميلة على مسرح روحي رقصة الوداع , ماتت الفرحة وتلاشت الأحلام .
أعرف كم هو قاس ومدمر فقدك لجزء من جسدك . فلكم تابعت وعرفت حالات لمرضى لم يستطيعوا التعايش مع هذا النقص المقيت .
-         إنشاء الله ستمشين عليها قريبا .
كاذب . ذلك الانطباع الذي خرجت به عن نفسي فكيف بها؟ . خانتني أنفاسي فتهدهد صوتي وفاحت رائحة الكذب من بين ارتجافاته .
-         شكرا دكتور .
قالتها مبتسمة ابتسامة الخنوع والاستسلام .
ابتعدت مسرعا بحثا عن طبيب العظام ليتابع المهمة التي أعيت روحي .
قطعوا قدمها فيما بعد . وانقطع الألم مع الابتسامة عن زيارة روحها . هكذا هي الحياة تعطي لتأخذ , تقبل لتبتعد , تضحك لنا لتضحك علينا , تَبكينا لتُبكينا .
ونحن نغرق في مستنقع الظنون وتغمرنا الأماني , حتى نخال الأيام مطيّة نسوقها حيثما وأنى نشاء , وسرعان ما تلقينا على ناصية الألم عراة بلا أمل.

د. باسم الحاج
الرياض
7 -12-2010م

هناك تعليق واحد: